كان يا ما كان في سالف العصر و الأوان أنه
في يوم من الأيام حيث الروابي تفوح بأريج الأزهار و تنتعش بهبوب نسيم الصباح في جو خلاب.
حلق عصفور بجناحيه يستنشق العبير الفواح باحثا عن زهرة يقع عليها القرار .
قرار الحب اللذي ضاع عنه من قديم الزمان .
طال البحث و طال الانتظار و ازدادت الحيرة دون أن تصيب جواب .
تعب من البحث ذلك العصفور الفتان فاستقر عند ضفة نهر ليروي ضمأه العطشان .
فجأة
تهادى إلى سمعه ألحان صوت شجي فنان .
أخذ يبحث بفضول و افتتان عن صاحبة الصوت الفتان علها تكون غايته و مناه .
وجدها بعد عدة خطوات فإذ هي زهرة بيضاء تتمايس دلالا مع هبة نسيم الصباح .
أخذه السحر بها و الأعجاب .
فقال لها بلهفة المشتاق : صباح الخير يا ذات الأريج الفواح و صاحبة الصوت الفتان .
نظرت إليه تلك الزهرة الميساء فقالت بغنج و انزعاج : ويحك يا صاحب الريش الطيار أتتجسس علي لتلقي تحية الصباح ؟
رد هو بافتتان : بل سلبني الصوت الجميل الشات و أظن أنني وقعت بالغرام ؛ فأسمحي لي أن أحلق بك في دنيا العشق و الأحلام ؛ أضمك بجناحاي الصغيران و أطير بك إلى سحابة الحب و الهيام .
تنهدت تلك البيضاء و قالت له باعتراف : قد أحببتك يا غريب الديار و يصعب علي إخفاء ذلك الاحساس ؛ لكن حبنا محال أن يكون له قرار .
أرتعش العصفور من ذلك الكلام فقال : لا تقولي أن الحب محال بل هو موجود في كل مكان ، في الأراضي و المياه في الصحاري و في الأجواء .
ردت بحسرة و آه : هو موجود في القلوب بين المشاعر و الاحساس ، لا يحكمه أرض و لا يحكمه هواء ، هو الأمل في الغد و فرح اليوم و ذكرى الأمس اللذي كان ، هو بدر في ليل ظلمة الأقدار ، هو فجر في نفس المقاتل الشجاع ، هو البشرى هو الأقدام هو الحياة ، هو ابتسامة تفاؤل هو آخر دمعات اليأس القتال .
رد العصفور الشاب بارتياب : لما تقولينها بحسرة و آه و استسلام ؟
قالت بكل واقعية لا خيال : لأني زهرة شرقية لها جذور و أعراف لا تعيش دون جذورها مهما طال بها الزمان ، فأذهب و أبحث عن عصفورة جميلة تحلق معك في السماء ، تجوب معك البحار و الجبال و الوديان ، و أتركني لمصير الثابت الراسخ المجهول حتى الآن ، إذهب .. إذهب و لا تعد إلى هنا بعد الأن .
تراجع العصفور بحزن و انهزام ، فهرب و هو يغالب دمعة الهزيمة النكراء ، تاركا تلك الزهرة تبدل الغناء بالبكاء و تزفر كل نفس بآآآآه واحسرتاه