بعد أن جفت الأمكان والأزمنة..وبعد أن تعبت من كثرة التفكير..لم أعد أرغب
في شيء..فقط أريد أن أنفرد بنفسي..وألوذ بوحدتي..وأبتلع
صمتي..وأجلس في مكان لا يراني فيه أحد..ولا أريد أن أرى أحدا فيه..مكان
أنظر فيه إلى السماء والبحر..لأكون هادئاً مع ذكرياتي..
لا أريد من يقطع أفكاري..أو يخرجني من هدوئي..أريد أن أقتحم
أغواري..وألقي بذاتي في رحاب ذاتي..وأحدث نفسي وأحاورها..ما دامت
هي الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يسلبها مني سوى خالقها...لأحاول أن
أعيد صياغة حياتي من جديد..
ما أشقى ذاكرتي..وما أتعسها..فكل ذكرياتي يلفها الصمت..وتسحبني الى
الركود في القاع..فتفلت الأصوات والوجوه مني..ما بداخلي ليس كرها
للحياة..وليس حبا لها..لا تسامح ولا حقد..لا أكترث للفرح أو بالحزن..لم أجد
بذاكرتي أي إجابة لأي سؤال..حتى الحلم لم أعد أحلمه..وحتى لو
حلمت..تظهر أحلامي بدون أصوات أو صور.. فكل شيء هادئ في
أعماقي..فذاكرتي تحيا في سكون قاتل..وهناك ظلال لصور غير
واضحة..لأحداث لا أدري أهي سعيدة أم حزينة..ولا توجد بداخلي
همسة..أتذكر بها لقاءا مفرحا أو فراقا مبكيا..عدا صوت يدوي في قوقعتي
بدون صوت...
تعبت من سجن وحدتي المنفرد..أجلس وحدي أتأمل جرحي..أراقب دقات
قلبي قلبي..الوحدة تمزقني..والحزن يغزوني..ويقيم داخلي..فلأول مرة
أشعر أن الشمس تغرب في وقت شروقها..والقمر يخفي وجهه عني..حتى
لا يجعلني أسكب دموعي على ضوئه...
يلفني صمت داخلي..يجعلني أحيا في ممرات مظلمة..قد يكون صعبا أن
تحرم من العافية..أن تحرم من الماديات..لكن الأكثر عنفا ومقتا..هو أن تحرم
من أن يكون لك نبض..يحمل معاني أخرى أكثر عمقا..يجعلك تعيش تلك
الوجدانيات..التي تجعلك تعرف أنك الآن تحيا....
سمعت أحدهم يقول مرة : أنا لا أريد أن أعيش..أريد أن أحيا....
وهذه باختصار كل الحكاية....جميعنا نعيش..نتنفس..نأكل ونشرب..لكن
السؤال هو : كم منا يحيا؟؟؟؟